سامحني يا سامر

رحلة الألم تذهب بالعقل إلى كل المناطق المحرمة والبشعة في الحياة
ربما كان جزء غير قليل منها هو إعادة النظر في الكثير من التفاصيل الصغيرة التي لم يكن الوقت ليتيحها قبلا
أتذكر عندما اقترحت عليه الذهاب للأسكندرية ولم يشعر بالرغبة في الذهاب وغضبت بشدة لأنني أحلم بهذه الرحلة كل شتاء. ولم نستطيع الذهاب حتى حل الصيف. وكانت المرة الأخيرة لنا معا هناك
أتذكر مرات ومرات غضبت منه لأنه يرفض الحضور معي لشراء الملابس حتى اضطررته لذلك كهدية لعيد ميلادي
أتذكر مرات كثيرة اختلفنا نتيجة تأجيل موضوع الأطفال
وبالطبع خلافنا الدائم لعدم قضاء وقت كافي معا، برغم أننا كنا نتناول وجبة واحدة على الأقل معا يوميا
وهناك الخلاف التاريخي حول تنظيف الأطباق وتنشير الملابس
أتذكر فترة مرضه واختلافنا حول من نستضيف بالمنزل وماذا نقدم لهم من طعام ومشروبات
أتذكر خلاف شديد بسبب أنه لا يأكل كما ينبغي لشخص مريض
أتذكر إصراري مرات كثيرة على منع التدخين بالمنزل وإصراره على أن الدخان لا يتسرب للغرف الداخلية
أتذكر مرات ومرات من المشاغبات الصغيرة التي كانت تعكر الجو، عادة دقائق معدودة وعلى الأكثر ساعات، وأشعر برغبة شديدة في أن أعتذر له عن أفعالي
لم يكن من المهم ذهابنا للأسكندرية أو شراء الملابس أو التدخين أو فعل أي من هذه الأشياء التي كانت تبدو وقتها سببا جيدا وكافيا للخلاف. لم يكن أي منها يستحق دقيقة من الغضب
بعد أن يكون كل شيء قد تحلل، أندم على هذه الدقائق الثمينة التي لم نكن فيها على وفاق
وأرجو من قلبي أن يسامحني سامر عليها كما كان يسامحني بسهولة وقتها

20130315-003236.jpg

من وحي ذكريات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية: احتفالية

أقامت كلية الاقتصاد عشاء بمناسبة مرور ٥٠ عاما على بدايتها، وكان ذلك في فندق الفور سيزونز يوم ١٤ مارس ٢٠١٠. وأعتقد أن سبب اضطرارنا للذهاب كان إصرار د.هبة حندوسة على أن يشتري سامر تذكرتين للحفل. لم يكن سامر أو أنا نهتم كثيرا بمثل هذه المناسبات التي يرتدي الجميع فيها الملابس الرسمية ويتحدثون إلى أحدهم الآخر ب”كيف حالك يا دكتور فلان؟” و”ما أجملك يا دكتورة فلانة” وبرغم أننا كنا فخورين بتخرجنا من “تحت القبة” في جامعة القاهرة إلا أن تجاربنا الجامعية اختلفت بشدة

الجامعة بالنسبة لي كانت المرحلة الفيصل في استقلالي التام عن المنزل. برغم أنني غادرت مصر وحصلت على شهادتي الدراسية من أمريكا ولكن بمجرد عودتي وجدتني في شباك المجتمع المصري بكل تعنته مع الفتيات وبكل صرامته مع المراهقات منهن. كانت الجامعة هي المخرج: فرصة لاكتشاف العالم بكل حرية، وحتى بعلم والدي ووالدتي الذين لم يرتعبوا كثيرا عندما علموا أنني أجوب شوارع القاهرة لاكتشافها بدون هدف محدد. كانت هوايتي هي استخدام خط أتوبيس ما حتى نهايته. ألاحظ الشوارع والبيوت والبشر والكنائس والجوامع. عرفت عدد ضخم من خطوط أتوبيسات القاهرة التي تمر عبر العباسية أو عبر جامعة القاهرة بهذه الطريقة الغريبة
ولمن لا يعلم فكلية الاقتصاد والعلوم السياسية كانت زينة الجامعة، بمكتبة مكيفة الهواء (شيء نادر وقتها) ومعمل كمبيوتر ليس مثله سوى في كلية الهندسة، وبصراحة أكثر: القليل جدا من المذاكرة للحصول على تقدير عام جيد جدا في نهاية العام
تجربة سامر في الجامعة كانت أكثر جموحا وأوسع نطاقا ولكن لم يحدثني عنها كثيرا: كانت من القصص التي نوينا تركها للمستقبل حين نطعن في السن ولا نجد ما نشاركه سوى هذه الذكريات الجميلة. أعلم جيدا أننا نحن الإثنين غادرنا الوطن لاستكمال التعليم بعدها واكتشفنا أن سنوات الدراسة تلك انتهت إلى تطوير الشخصية وليس الفكر

لا أعلم إن كانت الطاولة التي انتهى أمرنا إليها ليلة احتفال كلية الاقتصاد بعيدها الخمسين من تخطيط د.هبة بنفسها أو غيرها ولكننا جلسنا متجاورين مع فريق الجامعة الأمريكية الذي حضر للمشاركة، وشمل ليزا أندرسون ولم تكن رئيسة الجامعة وقتها، وآن لاش، وكذلك د.زياد بهاء الدين ود.هانيا شلقامي وجميعهم يعرفون سامر ولم يعرفني أحد (ربما كانت المرة الأولى التي أتعرف إليهم وأعتقد أنهم تعجبوا من منظري وقتها وكنت أبدو في العشرينات). شعرت بحرج من الوجود بقرب كل هؤلاء الغرباء بينما يجلس أصدقائي وزملاء الدراسة على الطاولة المجاورة. لابد أن تكون د.هبة وراء ذلك

على أي حال بدأ الحفل بعرض فيلم قصير عن الجامعة وفجأة وجدتني وسامر نتحدث إلى أحدنا الآخر ونضحك بصوت عال معلقين على الأسماء التي ذكرت أو بعض الأشخاص الذين يتحدثوا في الفيلم
لست واثقة من ردود أفعال بقية الرفاق على الطاولة ولكن لابد أنهم شعروا بالغربة لأننا كنا الوحيدين من خريجي كلية الاقتصاد وبرغم فارق السنوات إلا أن الذكريات المشتركة لبعض الأساتذة المميزين بقسم الاقتصاد جمعتنا في النهاية ومن الصعب التوقف عن الضحك بالذات مع بعض الشخصيات المميزة مثل الدكتور الذي لا يتوقف عن “البصبصة” والذي يتحدث عن “الأنثى” عشرات المرات أثناء المحاضرة والذين لا يحضرون أبدا وغيرهم
شعرت بغبطة شديدة لأن بيننا كل هذه الذكريات التي لم نسعى لها بأنفسنا ولكن وجدناها على الطريق
نفس الغبطة التي شعرتها يوم عرفت أننا تربينا في نفس المنطقة على بعد شارع واحد في العباسية

كنت أعبر أمام بيت طفولة سامر كل يوم في طريقي للمنزل من الجامعة
وكان يمر أمام منزل طفولتي كل أيام دراسته
وكنا نستقل نفس الأتوبيس البائس ٥٠٠ وبعدها المحدث ٩٤٩ (بضعف الثمن) على ما أتذكر
كنا نضحك كثيرا على هذه الذكريات وبالذات أثناء شراء العيش البلدي من “فرن أم سعيد” الذي كان يذهب إليه والدينا قبل أربعين عاما و بالطبع صور طفولتنا عند استوديو “فنان باريس” بشارع العباسية والذي كان يتربع على قمة الإبداع وقتها

كأننا التقينا قبل عشرين عاما من لقائنا

اليوم ألملم الذكريات هذه من الأصدقاء والرفاق الذين حالفهم الحظ بمعرفة سامر في تلك السنوات
محاولة تخيل القليل من تجربته وقتها وصناعة تاريخ جديد بيننا لم يمكننا الزمن من اللحاق به

20130314-192241.jpg